أهمية أخذ البنوك المركزية في الاعتبار تأثير السياسة المالية على القدرة لتحقيق استقرار الأسعار
التفاعل بين السياستين النقدية والمالية أضحى يشكل أهمية بالغة
معظم التضخم في المنطقة العربية ناتج عن عوامل خارجية
رفع أسعار الفوائد في الدول العربية كان حتمياً انسجاماً مع تطورات أسعار الفائدة العالمية، للمحافظة على استقرار أسعار الصرف والتدفقات الرأسمالية
هناك دور كبير يمكن أن تقوم به البنوك المركزية لتشجيع التنويع الاقتصادي
أوجه التعاون والتفاعل الفعّال بين البنك المركزي والحكومة لا يعني التخلي عن استقلالية السياسة النقدية
ألقى معالي الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله الحميدي، المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، كلمة في ورشة رفيعة المستوى حول التحديات الراهنة التي تواجهها المصارف المركزیة: تفاعل السياستين النقدیة والمالیة، التي نظمها صندوق النقد العربي بالتعاون مع بنك الجزائر وصندوق النقد الدولي بمدينة الجزائر بالجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية يوم أمس الاثنين 18 سبتمبر (أيلول) 2023، المصاحبة للاجتماع السنوي السابع والأربعين لمجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية.
شارك في الورشة أصحاب المعالي والسعادة محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية، إلى جانب عدد من كبار المسؤولين من مؤسسات مالية وبنوك مركزية عالمية.
أشار معالي الدكتور الحميدي، أن البنوك المركزية العربية تلعب دائماً دوراً فعالاً في تشكيل المسار الاقتصادي للدول من خلال إدارة السياسة النقدية، مبيّناً أنها كانت ثابتة في إلتزامها بالحفاظ على استقرار الأسعار، منوهاً على أهمية أن تأخذ هذه البنوك في الاعتبار تأثير السياسة المالية على تحقيق هذا الهدف.
في سياق متصل، أكد معالي الدكتور الحميدي أن قدرة البنوك المركزية على تحقيق أهدافها يرتبط بقدرتها على التفاعل الفعّال مع متغيرات السياسة المالية، مبيّنا أن التفاعل بين السياستين النقدية والمالية أضحى يشكل أهمية بالغة، مشيراً أنه يمكن للبنوك المركزية أن تتواصل بشكل فعّال مع السلطات المالية لشرح إطار عمل السياسة النقدية وتفاعله مع المتغيرات الاقتصادية المختلفة بما فيها السياسة المالية.
أضاف معاليه أن معظم التضخم في المنطقة العربية ناتج عن عوامل خارجية، مثل ارتفاع أسعار الطاقة أو الغذاء، وليس ناشئاً عن قوة الطلب المحلي، منوهاً في هذا الصدد أن البنوك المركزية في الدول العربية كانت مضطرة لرفع أسعار الفائدة بما ينسجم مع تطورات أسعار الفائدة العالمية، للحفاظ على استقرار أسعار الصرف والتدفقات الرأسمالية، واستقرار معدلات التضخم على مستويات متدنية.
أكد معاليه كذلك أن وضوح وشفافية إطار عمل السياسة النقدية وتوفير الرأي الفني من قبل البنوك المركزية لآفاق الدين واستمراريته، يعتبر من العوامل الهامة التي تساعد على تفاعل بين السياستين بخدمة أهداف الاستقرار الاقتصادي والنمو.
من جانب آخر، أوضح معالي المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي أن بعض الدول العربية لا تزال تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، مما يجعل اقتصاداتها عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية، مشيراً في هذا الصدد إلى الدور الذي يمكن تلعبه البنوك المركزية في مواجهة هذا التحدي من خلال تنفيذ السياسات التي تشجع التنويع في القطاعات غير النفطية.
كذلك أشار معاليه إلى أهمية عمل البنوك المركزية والحكومات جنباً إلى جنب لمواجهة التحديات الاقتصادية من خلال الحوار المنتظم ووضع أهداف واضحة، مؤكداً إن أوجه التعاون والتفاعل الفعّال المشار لها سابقاً لا تعني بأي صورة تخلي البنوك المركزية عن استقلالية السياسة النقدية أو التأثير على هذه السياسة.
في الختام، جدد معالي الدكتور الحميدي الشكر والتقدير للسلطات في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية على استضافة الاجتماع والورشة، ولسعادة صالح الدين طالب محافظ بنك الجزائر على تعاونه وزميلاته وزملاءه في البنك في التحضير للاجتماع والورشة وتوفير مستلزمات نجاحهما.
كما ثمّن معاليه جهود دولة الإمارات العربية المتحدة دولة مقر الصندوق في الرعاية والدعم الكبير الذي تقدمه باعتبارها دولة مقر صندوق النقد العربي، الذي يساهم بدون شك في قيام الصندوق بالمهام المنوطة به.
أصحاب المعالي والسعادة،
الأخوات والأخوة،
أسعد الله أوقاتكم بكل خير وسرور،
يسرني بمناسبة الورشة رفيعة المستوى حول "التحدیات الراھنة التي تواجھها المصارف المركزیة: تفاعل السیاستین النقدیة والمالیة"، التي ينظمها صندوق النقد العربي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وبنك الجزائر، أن أرحب بكم وأتقدم بخالص الشكر والتقدير للجمھوریة الجزائریة الدیمقراطیة الشعبیة، رئيساً وحكومةً وشعباً على كرم الضيافة وحسن الاستقبال، راجياً لأشقائنا دوام الازدهار والتقدم.
تأتي الورشة اليوم في إطار الحرص على معالجة بعض القضايا التي تواجهها البنوك المركزية في المنطقة العربية وتعميق فهمنا للتفاعل بين السياستين النقدية والمالية من أجل تحقيق التنمية المستدامة في دولنا العربية.
تطورت التحديات التي تواجه البنوك المركزية والحكومات منذ أن شهد الاقتصاد العالمي تحولات جذرية، بداية من الأزمة المالية في عام 2008 إلى جائحة كورونا والتبعات المستمرة الناجمة عنها وصولاً إلى التطورات العالمية الراهنة، وما رافقها من ارتفاع وعدم استقرار كبير في أسعار الأغذية والطاقة. هذه التحولات الجذرية ساهمت في تنامي دور البنوك المركزية في المحافظة على الاستقرار النقدي والاقتصادي والمالي وظهر ذلك جلياً في استخدام البنوك المركزية بكثافة لأدواتها التقليدية، واستحداث أدوات جديدة وتوسع حجم ميزانياتها. وفي المقابل تنامى دور المالية العامة والحكومات في دعم الاستقرار الاقتصادي والتعافي ومواجهة تبعات الجائحة وحماية الطبقات الهشة من آثار ارتفاع السلع الأساسية، الأمر الذي نشأ عنه في معظم الأحيان، ارتفاع ملموس في حجم المديونية وكلفة خدمتها. هذه التطورات جعلت حجم التفاعل بين السياستين النقدية والمالية أكبر حجماً وأكثر تأثيراً.
لم تكن المنطقة العربية بمنأى عن هذه التحديات، حيث أصبح التفاعل بين السياستين النقدية والمالية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. واليوم، نود أن نسلط الضوء على التحديات المتعلقة بذلك ونحاول مناقشة كيفية التعامل معها بصورة تعزز من الاستقرار الاقتصادي.
أصحاب المعالي والسعادة،
الأخوات والأخوة،
تلعب البنوك المركزية العربية دائماً دوراً فعالاً في تشكيل المسار الاقتصادي للدول من خلال إدارة السياسة النقدية، حيث كانت ثابتة في التزامها بالحفاظ على استقرار الأسعار، الذي يُعد هدفاً أساسياً لها. ومع ذلك، يتعين عليها أيضاً أن تأخذ في الاعتبار تأثير السياسة المالية على تحقيق هذا الهدف، حيث أن الدعم السلعي يقلل من ناحية الضغوط التضخمية مما يقلل الحاجة لرفع أسعار الفائدة لكبح التضخم، لكنه يرفع مستوى المديونية والمخاطر مما يستوجب في حالات معينة رفع سعر الفائدة للمحافظة على استقرار سعر الصرف. من ناحية أخرى فإن مستويات وكلفة الإنفاق المرتفعة قد تخلق ضغوطاً تضخمية تستوجب رفع سعر الفائدة للحد منها.
وعليه فإن قدرة البنوك المركزية على تحقيق أهدافها يرتبط بقدرتها على التفاعل الفعّال مع متغيرات السياسة المالية بما يمكنها من تحقيق الاستقرار في مستوى الأسعار مع تقليل الضرر على النمو والاستقرار المالي إذا أمكن.
في هذا الصدد، يشكل التفاعل بين السياستين النقدية والمالية أهمية بالغة، حيث يمكن للبنوك المركزية أن تتواصل بشكل فعّال مع السلطات المالية لشرح إطار عمل السياسة النقدية وتفاعله مع المتغيرات الاقتصادية المختلفة بما فيها السياسة المالية.
من ناحية أخرى فإنه وعلى الرغم من أن معظم التضخم في المنطقة العربية ناتج عن عوامل خارجية مثل ارتفاع أسعار الطاقة أو الغذاء أو ارتفاع كلف المستوردات مع تراجع سعر صرف العملة، وليس ناشئاً عن قوة الطلب المحلي، فإن البنوك المركزية في الدول العربية كانت مضطرة لرفع أسعار الفائدة بما ينسجم مع تطورات أسعار الفائدة العالمية، وبما يحافظ بالتالي على استقرار أسعار الصرف والتدفقات الرأسمالية وبالتالي استقرار معدلات التضخم على مستويات متدنية. هذا الفهم لهذه المتغيرات مهم عن التخطيط والتقييم لآثار السياسة المالية على النمو ومستويات الدين وأعباء خدمته وعلى توفر مصادر التمويل الملائمة للمالية العامة في الأجل القصير والمتوسط. إن وضوح وشفافية إطار عمل السياسة النقدية وتوفير الرأي الفني من قبل البنوك المركزية لآفاق الدين واستمراريته، من العوامل الهامة التي تساعد على تفاعل بين السياستين بخدمة أهداف الاستقرار الاقتصادي والنمو.
لا تزال بعض الدول العربية تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط، مما يجعل اقتصاداتها عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية. هذا ويمكن أن تلعب البنوك المركزية دورها هنا في مواجهة هذا التحدي من خلال تنفيذ السياسات التي تشجع التنويع في القطاعات غير النفطية من خلال تعزيز الوصول إلى الائتمان بأسعار معقولة للشركات في القطاعات الناشئة.
من ناحية أخرى فإن سياسات الضبط المالي وتحسين شبكات الأمان الاجتماعي ودعم المستحقين بدلاً من دعم السلع، تمثل إجراءات مالية مهمة تحقق خفض العجز والجهد المالي وتعزز استدامة المالية العامة وبالتالي فهي تقلل من حاجة السياسة النقدية للتشديد لمستوى يغطي هامش المخاطر ويحقق الاستقرار النقدي واستقرار سعر الصرف والتدفقات الخارجية. هذه الإجراءات لا تقلل فقط من كلفة خدمة الدين، ولكنها تقلل من الحاجة لرفع أسعار الفائدة بصورة كبيرة تحد من النشاط الاقتصادي وبالتالي من إيرادات الحكومة.
أصحاب المعالي والسعادة،
الأخوات والأخوة،
يتطلب معالجة هذه التحديات اتباع نهج شمولي، حيث لا يُنظر إلى السياستين النقدية والمالية كأدوات معزولة، بل كآليات مترابطة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. في هذا السياق، من الأهمية بمكان أن تعمل البنوك المركزية والحكومات جنباً إلى جنب لمواجهة التحديات الاقتصادية من خلال الحوار المنتظم ووضع أهداف واضحة، بحيث تتماشى تدابير السياسة المالية مع أهداف السياسة النقدية المتمثلة في استقرار الأسعار والسلامة المالية.
من الأهمية بمكان أيضاً أن تكون البنوك المركزية واضحة بشأن أهدافها، والحكومات شفافة بشأن استراتيجياتها المالية، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الثقة ويسمح للأسواق والجمهور باتخاذ القرارات المناسبة. كما تلعب البنوك المركزية دوراً محورياً في استقرار أسعار الصرف، ويمكن أن يكون للسياسة المالية تأثير كبير في هذا الصدد كما ذكرت سابقاً، ويمكن للانضباط المالي أن يحد من التقلبات السلبية في أسعار العملات.
كما يمكن للبنوك المركزية والحكومات أن تعمل بشكل مشترك لتعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، من خلال استكمال التدابير المالية التي تستهدف الفئات الضعيفة وتحفز خلق فرص العمل بسياسة نقدية توفر بيئة مواتية للاستثمار وريادة الأعمال. كما يساهم التواصل الفعّال من قبل البنوك المركزية بخصوص مستويات السيولة وآفاقها في إدارة الدين العام بفاعلية وتخفيف عبء الدين العام، كما يمكن أن تلعب البنوك المركزية دوراً في تنمية أسواق الدين، بما يعمق أسواق الدين بشكل عام ويُمكن للحكومات أن تعزز تنوعاً وتوزيعاً جيداً لأنواع أدوات الدين وآجالها بما يعزز من استدامة المالية العام.
إن أوجه التعاون والتفاعل الفعّال المشار لها سابقاً لا تعني بأي صورة تخلي البنوك المركزية عن استقلالية السياسة النقدية أو التأثير على هذه السياسة من قبل الحكومة، ولكنها تعني أن وضوح إطار عمل كل من السياستين والفهم الأفضل لآفاقهما والشفافية في الأهداف وآليات تنفيذ السياستين والتقدير الأفضل لانعكاس آثار كل سياسة على أهداف السياسة الأخرى، سيعزز من فرص وجود تفاعل بناء يحقق الاستقرار الاقتصادي بمفهومه الأوسع.
أصحاب المعالي والسعادة،
الأخوات والأخوة،
في الختام، أود أن أنتهز هذه المناسبة لأجدد خالص الشكر والتقدير للسلطات في الجمھوریة الجزائریة الدیمقراطیة الشعبیة على استضافة الاجتماع، والسلطات في دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة مقر صندوق النقد العربي، على الدعم المتواصل الذي تقدمه للصندوق، بما يساهم في إنجاح الأنشطة والأعمال التي يقوم بها، متطلعاً لمناقشاتكم حول الموضوعات المطروحة، وراجياً لاجتماعنا اليوم أن يُكلَّل بالنجاح والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.